أغلقت الدكان عند الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا بعد قضاء يوم مليء بتلبيات طلبات الزبائن التي لا تنتهي إلا بالمشاجرة عندما أطالب أحدهم بتسديد ما عليه من دين،
في عتمة الليل وأنا أتقلب في الفراش يمنة ويسرة أنتظر مجيء هبات نوم عميق يريح جسدي من عناء سبع عشرة ساعة من الوقوف، عبرت برأسي سحائب ذكريات بعيدة وأخرى قريبة، واسترجعت الشريط مند سنوات إلى أن وصلت النهاية، دقائق الليل تمر مسرعة وطلائع الصباح على وشك البزوغ وأنا لا زلت أبحث عن موطئ قدم في باحات النوم الذي أبى إلا أن يخرجني من حساباته حتى نبع في خيالي وجه ذلك الشيطان الإنسي الذي يفهم في كل شيء ولا يعمل عمل نملة، حياته كلها كلام في كلام لا يسكت لسانه إلا لقمة الطعام أو حين يسقط جسده جثة هامدة آخر الليل، أعوذ بالله من كثيري الكلام والطعام لا فائدة ترجى منهم، كلامه معي هذا اليوم عن الانتخابات أيقظ بداخلي نشوة التغيير والتطلع إلى المستقبل وحب النوم في العسل.
- لماذا لم تترشح؟ أنت لديك مستوى تعليمي مهم ويحترمك كل الزبائن توكل على الله وترشح فالكل سيكون إلى جانبك، هكذا زرع في الاغترار وحب النفس.
كلامه هذا جعلني أجلس في مكاني، ودقات قلبي تتسارع لم أعد أفكر في النوم، استندت إلى الحائط، دورت الفكرة في رأسي :
نعم لماذا لا أترشح بماذا هم أفضل مني إلى متى سأبقى رهين هذا الدكان البئيس الذي لا ترجى منه فائدة.
في الساعات الأولى من الصباح وجدتني أمام مقر الحزب أنتظر مجيئ من سيفتحه، ربما هنا في المدينة وبهذا الحي بالضبط لا يوجد جيران مثل جيراننا، نحن لا نعرف للنوم طعما سواء ليلا أو نهارا أهازيج هنا وضجيج هناك طيلة اليوم لا يحترمون المريض ولا يتركون مجالا للعامل البسيط وقتا للراحة بعد قضاء يوم كله تعب، نعم إنهم هنا مختلفون شيئا ما عنا.
يا إلهي كم أنا ساذج جئت بدون موعد ولم أسأل عن ساعات العمل لديهم وهل فعلا يقبلون الترشح ممن كان؟
سحقا لذلك الإبليس لقد تأثرت بكلامه وأنا الذي أكرهه وأمقته وأنتقده طيلة اليوم أمام الصغار قبل الكبار، أنا اليوم أعمل بنصيحته كم أنا ساذج؟
بينما أنا أهم للرجوع إلى فتح الدكان والتراجع عن الفكرة من أساسه وقفت سيارة أمام المقر نزل منها شخص واحد سبق لي وأن رأيته كان أستاذا في الثانوية لباسه أنيق أكثر مما عهدته قبل سنوات،
- تفضل .... قال لي وكأنه قرأ ما بمخيلتي بدون مقدمات، صعدت السلم وراءه، كانت ستة عشرة درجة حسبتهم بالتمام والكمال متذكرا قصص الأسئلة الشفهية التي سمعتها عن بعض من فشلوا في الامتحانات بسبب عدم إجابتهم عن عدد الدرجات في السلم الذي صعدوه أو لون المؤسسة الخارجي، ابتسمت ابتسامة عريضة مستهزئا من نفسي،
- في المكتب استقبلني الأستاذ بعدما أشعل مكيف الهواء لأن الجو كان حارا شيئا ما في ذلك الصباح، جلست أمامه بكل احترام وقلبي يريد أن يطير من مكانه لا أعرف إن كان ذلك خوفا أو فرحا وفي الحقيقة لا هذا ولا ذاك مجرد إحساس سرعان ما سيختفي بعد اللقاء.
كان مكتبا فخما أو ربما حسب تقديري أنا لأنني أول مرة أدخل مكتبا من مكاتب المسؤولين بعدما كنت أعرف فقط مكتب مدير المدرسة أو حارسها العام ذلك المكتب الذي لا يختلف عن قاعات الدراسة إلا باختلاف الكراسي والمقاعد، استغليت فرصة انشغاله في البحث عن وثائق ضمن الملفات الموجودة أمامه لأتجول ببصري في مكونات هذا الفضاء الفسيح والمريح بعدما بدأت تهب نسائم المكيف الهوائي باردة، جعلتني أحلم بنوم عميق في هذا مكان خصوصا وأنني لم أذق طعم النوم مند صباح الأمس، وضعت لوحة أمام الأستاذ كتب فيها " الكاتب الإقليمي للحزب" وصورة معلقة في أعلى الحائط المقابل لرجل طاعن في السن، لم أتعرف على صاحب الصورة ولكن فكرت إن سألني عنه سأقول له بأنه مؤسس الحزب أو أمينه العام، وبما أن الصورة بالأبيض والأسود فربما قد مات وصورته تعبر عن مدى تعلقهم بأفكاره وتوجيهاته وأنه الأب الروحي للحزب نعم الأب الروحي للحزب هذا هو الجواب المقنع الذي سأقوله إن سألني عن صاحب الصورة.
أدرت بصري يمينا لا شيء، وفي اليسار زين الجدار بثلاث كؤوس وبعض الميداليات منها 3 ذهبية اللون و3 فضية ومثلهم نحاسية، لا أعرف إن كانت الأحزاب كذلك تفوز بالميداليات أم المقاعد أم هما معا؟ المهم لا داعي لهذه الأسئلة، أكملت الجولة منتهيا من حيث بدأت لأتجول في أسفل لأنني تعلمت من الحياة دائما أبدأ من القمة لكن هذه المرة أخطأت. الأسفل كان غنيا عن القمة بما يتطلب مشاهدته، عناوين لكتب كثيرة لكن مجملها كان في السياسة - إستراتيجية وزارة الخارجية .....، مجمل تاريخ المغرب، الصحراء المغربية التاريخ والحضارة للكاتب ....، مزهريات ومجسمات لأسود وكأنها حقيقية ربما هذه هي أسود الأطلس التي سمعت عنها كثيرا لكن دون أن أعرف شكلها،
- انتهى الأستاذ من بحثه عن الوثائق والتفت إلي مبتسما بماذا أخدمك؟
- أريد أن أترشح.
- مرحبا وشكرا لأنك اخترت الحزب المناسب نحن حزب له تاريخ عريق في السياسة وخدمة هذه البلاد، وأنت عندما عزمت على اتخاذ مثل هذا القرار تكون قد ساهمت في التغيير وكبح جماح المفسدين الخائنين لهذا الوطن والوقوف ضد الذين يريدون مقاطعة الانتخابات و و ...
استمر في خطابه وكأنه في جلسة من جلسات البرلمان أو في تجمع خطابي بينما أنا غائب عن الواقع، استسلمت لنسمات الهواء البارد التي تنزل من المكيف وأطأطئ رأسي كأني أستوعب كلامه إلى أن سمعته يقول عليك بإحضار الوثائق التالية: نسخة من عقد الازدياد، نسخة من البطاقة الوطنية وصورتين أما الباقي فنحن من سيتكفل به وسنضعك في اللائحة تحت رقم 15، هو في الحقيقة رقم بعيد عن النجاح ولكن في السنوات المقبلة إذا انخرطت في الحزب وخصوصا في الشبيبة سيكون لك شأن كبير بإذن الله وستكون لك مرتبة مهمة في الانتخابات المقبلة بحوله وقوته.
أمام الدكان وجدت حشدا من النساء والرجال يقفون صفا واحدا لم أفهم أي شيء حتى اقتربت من الجمع، ارتمت علي امرأة عجوز قبلت يدي وتدعوا ومثلها فعل الآخرون سألتهم ما الأمر؟
- نترجى مساعدتك فولدي عاطل عن العمل وهو المعيل الوحيد للعائلة قالت إحداهن، ابنتي لديها دبلوم في الحلاقة أريد منك التدخل لدى مدير مركز التربية التكوين لـ.... سمعت من الأخرى، أنا مريض وهذا ملفي القانوني أريد العلاج خارج المغرب فمرضي ليس له علاج هنا.... وأنت من سيساعدني لأن هؤلاء كلهم ........ قال الرجل وعيناه تدمع.
انسللت عن الجميع وأخذت الهاتف: اتصلت بالكاتب الإقليمي سيدي أريد الانسحاب لم تعد لدي رغبة في الترشح لقد تراجعت.